كثُرت على الساحة الفكرية الإسلامية الدعوة إلى (التعقل) و(التفكر)، و(مد الجسور مع الآخر) ذي المناهج العلمانية، و(الإفادة من القوى الوطنية الأخرى)، و(فهم طبيعة المتغيرات)، و(انتهاز الفرصة السانحة)، و(أن رأس الأوليات هو الإصلاح الديني) رغبةً في التقدم المادي والارتقاء بمستوى الأمة خاصة والإنسانية عامة.
ودون ذلك دعوات أخرى تنادي بـ (الانفتاح على الآخر)، وإعادة قراءة الشريعة من جديد تحت ضوء المصالح والمفاسد- بمفهوم أصحاب هذا الطرح-، ودفع أعلى الضررين بتحمل أدناهما، واعتبار المقاصد في التشريع، وأن الفتوى تتغير بتغير الحال والزمان والمكان.
أتفهم هذا كله، وأجاهد نفسي على قبوله ولا أستطيع.
أعرف جيدا أن للنص سبب نزول، وأن الأصل في الأحكام التعليل، وأن للسياق دِلالة لا تُهمل، وأن معرفة الحكم لا تعني أبدا إصداره، إذْ لابد من تنقيح المناط.
وأعرف أن هناك (روح للشريعة)، ومقاصد للتشريع تعطينا الرخصة- أحيانًا- لتجاوز الدلالة الظاهرة للنص وإعمال التأويل المصاغ.
ولكن ما يطرحه القوم، لا يتماشى- عندي- مع هذا كله، بل تصطدم- عندي- أطروحتهم بأشياء، ومنها:
1- أن المقاصد متأخرة على الأحكام لا أنها سابقة عليها، وهذا ينسف كثيرا من هذه الأطروحات.
فالعقل يستنبط المقاصد من الأحكام الشرعية لا أنه يضع مقاصد يصيغ من أجلها الأحكام.
والعقل لا شأن له بالحكم الشرعي، وإنما بالمناط الذي ينطبق عليه هذا الحكم.
فمثلا لا مجال لإعمال العقل في كون «كل مسكر خمر وكل خمر حرام»، وإنما في كون ما شُرب خمرا أم لا ؟
ولا مجال لإعمال العقل في أن الحركة الكثيرة تبطل الصلاة، وإنما في كون المصلي تحرك كثيرا أم لا ؟
وإن راح العقل ناحية الدليل فكي يستبين صحته... من صحة طرق إثباته، أو طريقة استنباطه، والبحث عن العلة إن كانت بادية ليُعمل القياس وينقح المناط.
أما إن خَفيت العلة فلا سبيل للعقل على الحكم الشرعي. ولا مناص له من الانقياد، والتسليم إن كان مسلما.
أما ما يحدث اليوم من قبل أصحاب هذه الأطروحات هو شيء آخر.
فحين تنظر في خلفيات الكلام، وتتعدد قراءتك لأصحاب هذا الطرح، تجد أن من يتكلمون بهذه الأفكار، يحاولون- في الجملة- تعديل الشريعة الإسلامية، أو قل: إعادة قراءة الشريعة الإسلامية من جديد، أو بعبارة أوضح هي حالة عجز أصابت رجال اليوم وهم يتعاملون مع الواقع المرير الذي آلت إليه الأمة، فراحوا يُلقون بالتبعة على الشريعة الإسلامية ذاتها لا على الإنسان المعاصر، خروجا من هذا المأزق التاريخي. هذا ما أفهمه.
2- وتصطدم عندي هذه الأطروحات بأن هدف البعثة المحمدية- وكل بعثة كانت، من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم- هي تعبيد الناس لله وليس ما يسمى الرقي المادي بالإنسانية، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. بل إن الرقي المادي لازم من لوازم الانضباط على شرع الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66]
فمن هنا الطريق وليس من هناك، وكثيرا ما أردد قول حسان بن ثابت حين أقرأ هذه الأطروحات:
إذا زحفت للغور من بطن عالج فقولا لها: ليس الطريق من هنالك
3- وتصطدم هذه الأطروحات عندي بأن المشكلة مشكلة رجال يحملون المنهج وليست مشكلة المنهج نفسه، فلا أرى أن أحدًا يخالفني في القول بأن الواقع تُشكله الفِكرة وليس الفكرة هي التي تشكل الواقع. هذه بديهة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث في وسط ركام هائل من التصورات المغلوطة، وفي وسط أمواج متلاطمة من الكفر والفسوق والظلم. وبالعبيد والضعفاء كان ما كان... وصاغ المنهج الإسلامي الحفاة العراة الأمين صياغة أخرى لم يعرف التاريخ مثلها... أخرج منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. وكتب الله لهم الغلبة على كل قوى الأرض يومها، وانتشر العدل والأمان بين الناس... ومنهم كان النور الذي اقتبس منه كل الناس، صار بأيديهم كل شيء، ثم حين غيرنا غيَّر الله علينا.
وفي القرآن تشخيص دقيق للداء {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: من الآية 11]
فكان الطريق الصحيح هو أن نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم لنتقدم ونرتقي ماديًّا ومعنويًّا وسياسيًّا وعسكريًّا كما تقدموا رضوان الله عليهم. نُرضي ربنا فيرضينا ويسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة، والقرآن بين أيدينا يرشدنا {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 69].
وندعو أوربا- ومن سار خلفها- وقد جربت الدين المنحرف وكيف فعل بها، أن تنبذه وراء ظهرها، وتأخذ بالإسلام إن كانت تريد الخير في الدنيا والآخر، ونقول لهم ما أمرنا الله بتبليغه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
الأسوار التي تحيط بنا عالية، وعلى من لا يستطيع أن يهدمها أو يقذفها أو يتسلق عليها... عليه أن لا يزين للباقين الجلوس خلفها.
الكاتب: محمد جلال القصاص.
المصدر: موقع طريق الإسلام.